الجمعة، ٢٦ أبريل ٢٠١٣

263 يوم .. و"لسه حقهم مارجعش "


،من أكثر الموضوعات قربا إلي قلبي ،هي تلك التي أنقل فيها حزن البشر وألامهم فأبسط حقوقهم أن يسمعهم ويعرف عن مأساتهم الأخرون، وفي هذا الملف الذي شاركت فيه ونشر بجريدة الوطن، أتحدث عن مأساة عاشتها مصر كلها عندما غدر ،المجرمون بجنودنا علي حدود سيناء في نهار رمضان ،وإغتالوهم وهم صيام وبرغم مرور 263 يوم علي إستشهاد الأبطال، إلا أننا لم نسمع حتي الآن عن تحقيقات جادة تثلج قلوبنا وقلوب أبائهم وأمهاتهم
وهذا المشهد الذي كتبته تحت عنوان " الساعات الأخيرة ل 16 شهيد " لم آتي به من مخيلتي ، وإنما من شهادات علي لسان أبائهم وأمهاتهم الذين صادف وكانوا يتحدثون مع الشهداء قبل الحادث بساعة أو أقل ، وهذا هو ما كان يفعله جنودنا قبل أن تنال منهم الأيادي الغادرة :

الساعات الأخيرة لـ 16 شهيداً.. «حان وقت دخول الجنة»

  
كانت الساعة تقترب من الخامسة بعد عصر يوم الأحد 5 أغسطس 2012، وساعة واحدة تفصلهم زمنياً عن موعد الإفطار، بدت كتيبة حرس الحدود فى رفح كخلية نحل، الكل يعمل دون توقف، والعمل ليس واحداً للجميع، فها هو المجند حامد عبدالعاطى الذى كان قد أعد فى منزله قبل أن يسافر لأسرته الفطير المشلتت، منافساً أمه فى مهارتها، أخذ لزملائه نصيبهم مما أعدته يداه، ودس المجند يده فى حقيبته وأخرج منها كيساً أسود كبيراً به الفطير الذى أحضره معه لزملائه حتى يتقاسمه معهم، موفياً بوعده لهم قبل أن ينزل إجازته الماضية حين أقسم بأن يعد لهم بيديه الفطير المشلتت الذى لن يذوقوا مثله أبداً فى حياتهم.
بينما كان حامد يوزع شرائح الفطير فى أطباق صغيرة، كانت أسفل إحدى الطاولات بالكتيبة، اصطدم دون قصد بكتف المجند محمد إبراهيم صديقه وابن محافظته القليوبية، فمازحه محمد قائلا: «بالراحة يا جدع، مش شايفنى بكلم أمى فى التليفون.. أيوه يا اما، لا مفيش حاجة ده حامد عاملنا قال إيه فطير وعاوزنا ناكله على الفطار، فاكرنا مجانين عشان ندوق حاجة عاملها بنفسه»، ورد حامد ضاحكا: «طب إيه رأيك بقى إنت اللى هتيجى تتحايل عليا أديلك حتة».

يعود محمد إلى مكالمته: «يا اما، صحيح اعملى حسابك نحضر فرح حامد بعد 18 يوم، هو هيقدم أجازة للقائد النهارده عشان يعرف يروح يتجوز، وبقولك إيه كمان يا اما شوفى بس إيه اللى ناقص عشان فرح أختى، وما تتعبوش نفسكم، أنا لما انزل الأجازة الجاية إن شاء الله هرتبلكم كل حاجة»، يصمت مستمعاً إليها: «لا يا اما، تعب إيه بس؟ دى أختى والمصاريف اللى دفعتها لفرحها دى واجب عليا، وحياتى عندك ما تتكسفى تطلبى منى حاجة، وقوليلها محمد أخوكى بيقولك عينيا ليكى، ده انا مستنى يوم فرحها ده بفارغ الصبر عشان أطمن عليها، خدى بالك من نفسك يا اما، أنا هسيبك عشان أروح أشوف الحاجة اللى عملتها حولين الكتيبة».
تنتهى المكالمة ويعود محمد إلى الحديقة التى زرعها حول الكتيبة ليروى الزرع ويطمئن إلى فرم الجبس التى أقامها صانعاً أحواضاً للزرع، وبينما يكمل مهمته التى طالما أحبها لمح زميله المجند محمد سليم جالساً على الأرض شارد الذهن، فترك ما بيده وتوجه ناحيته قائلا: «ما لك يا محمد شايل الهم ليه؟»، فرد عليه: «مش عارف والله، بس قلبى مش مطمن، حاسس إن فيه حاجة غلط، ده أنا حتى اتصلت بابويا الفجر عشان أطمن عليه، وأكيد قلقته، بس حسيت إنى عايز أعمل كده».
ربت محمد على كتف زميله وقال له: «يا عم خليها على الله، اللى كاتبه ربنا هنشوفه، قوم بينا نصلى ركعتين، وأنا هقرا آيات تطمن قلبك شوية، وأنا هكون إمامك فى الصلاة»، ويذهب الاثنان للصلاة.
فى ركن صغير داخل الكتيبة يجلس المجند «حمادة عيد» ممسكاً فى يديه كتاب الله مردداً الآيات القرآنية بصوت عالٍ، يشير إليه أحد زملائه بأنه لم يبقَ سوى دقائق على أذان المغرب، فيرد عليه بإشارة معناها أنه مستمر فى القراءة حتى موعد الأذان.
ثوانٍ ويرفع الأذان، الكل مشغول، فهذان يصليان، وذاك يقرأ القرآن، وهذا المجند ذهب ليتوضأ، وآخرون يعدون أطباق الإفطار، وما كاد صوت المؤذن ينطلق من المذياع ناطقاً الله أكبر، حتى يسمع الجميع طلقات الرصاص تضربهم من كل حدب وصوب، وما يكاد المؤذن ينهى بقوله: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» حتى تتحول الكتيبة إلى بركة للدماء التى تناثرت على مصحف «حمادة» وعلى السجادة التى كان يصلى عليها الصديقان، بينما تسيل الدماء من ذاك المجند الذى لم يكن قد ابتلع حبة التمر بعد.
16 مجنداً من خيرة أجناد الأرض استشهدوا دون حرب، لاقوا وجه ربهم برصاص الغدر فى زمن السلام.. واليوم مر أكثر من 8 أشهر ونصف الشهر، ولا تزال دماؤهم ممتزجة بأسلافهم الشهداء الذين ماتوا دفاعاً عن بوابة مصر الشرقية، تصرخ 
منادية بالقصاص، ماتوا ولا أحد يطبق قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِىالألباب  


ليست هناك تعليقات: